العوامل المؤثرة في بناء الشخصية "الجزء الأول"
يقول د.مصطفي محمد الطحان في كتابه التربية ودورها في تشكيل السلوك إن عوامل عديدة تتدخل في بناء الشخصية الإنسانية ،أهمها دور الوراثة ،دور البيئة ،دور المربي ،دور الطالب .أولاً _دور الوراثة هناك اتجاهان مختلفان عند العلماء الغربيين لتفسير الظواهر السلوكية لدي الأفراد .بحيث يعزي الإتجاه الأول أسباب هذه الظواهر إلي عوامل وراثية ،بينما يري أصحاب الإتجاه الثاني رد ذلك إلي عوامل بيئية . ففي الوقت الذي يؤكد فيه علماء الوراثة من أمثال (جولتون ) و(بيرسون ) علي أهمية الوراثة ،يؤكد علماء الاجتماع علي أهمية البيئة . يقول بيرسون : إن الناس يرثون عن آبائهم القدرة والخجل والمشاعر والحالات النفسية ،بالطريقة نفسها التي يرثون بها الشكل ،واللون وطول القامة وغير ذلك .يبنما يقول هنري جورج : إن العوامل الوراثية التي يبالغ الناس الآن في أهميتها لاقيمة لأثرها إذا قورنت بأثر العوامل التي تؤثر في الإنسان ،من هذا العالم .وفي هذا إشارة إلي مدي الخلاف حول أثر العوامل الوراثية والبيئية في السلوك الإنساني .وإن كان أصحاب المدرسة الإجتماعية لم يغفلوا أثر الوراثة بالكامل بل قللوا من تأثيرها .
دور الجينات في الوراثة :
والوراثة هي :جميع العوامل الموجودة في الكائن الحي من اللحظة التي تتم فيها عملية تلقيح الخلية الأنثوية بالخلية الذكرية .وقد أثبت علماء الأحياء ان بالخلية خيوطاً إسمها الصبغيات أو الكروموسومات ،وأن هذه الخيوط يمكن تقسيمها إلي مناطق متعددة ،وافترضوا علي ضوء الحقائق العلمية ان علي كل منطقة منها مايسمي بالجينات ،وأثبت علماء الوراثة أن هذه الجينات هي حوامل الاستعدادات الوراثية ،فالخلية الناتجة بعد التلقيح تحمل كروموسومات جينات بعضها من ناحية الأم ،وجينات بعضها من ناحية الأب ثم تبدأ الخلية تتكاثر مكونة الجنين .وإذا كانت التفسيرات المبنية علي حقائق علمية لظاهرة الوراثة وأثرها في تكوين شخصية الطفل قد ظهرت مؤخراً إلا أن هذا العامل كان واضحاً من قبل ،فعلماء الماضي كانوا يدركون أن في بذرة الزهرة ،ونواة الشجرة ،ونطفة الإنسان والحيوان ذخائر تنقل صفات الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة .(ولقد اكتشف العلماء المسلمون ظاهرة الوراثة قبل أن يكتشفها علماء النفس والوراثة ،ودللوا علي كثيرمن آثارها ومميزاتها وأن لها دوراً إيجابياً في التكوين السليم وعدمه للانسان ،فهي تؤثر تأثيراً ذاتياً في الشخص منذ بداية تكوينه ).
تخيروا لنطفكم : وفي هذا الإطار يمكننا فهم حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم :(تخيروا لنطفكم )وقوله صلي عليه وسلم :(تزوجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس ).
فدلالة العرق في اختيار المرأة أوالرجل شريك حياته ،تماثل دلالة الجين في هذه الأيام .
فالاختيار للزواج الذي يتحدث عنه رسول الله صلي الله عليه وسلم يقوم علي مبدأ الوراثة التي عبرت عنها لفظة دساس حيث تشير أن أخلاق الآباء تنتقل إلي الأبناء .. بمعني أنه في حال توفرت في الآباء صفات الصلاح والفلاح والأخلاق الفاضلة والنزعات الكريمة ،والميول الحسنة والنوايا الطيبة ،لابد وأن يكون للطفل نصيب من ذلك وهوفي بطن أمه .وسيكون علي عكس ذلك فيما لوطغت نزعات الشقاء علي والديه . وعليه فليس غريباً علي الطفل أن يكون شقياً أو سعيداً وهو في بطن أمه ..يؤيد ذلك حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم :(الشقي من شقي في بطن أمه ).ويؤيده ماروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً من بني فزارة جآء إلي النبي صلي الله عليه وسلم فقال :(إن امرأتي جآءت بولد أسود .فقال :هل لك من إبل ،قال نعم ،قال :ماألوانها ؟ قال :حمر ،قال فهل فيها من أورق ؟ قال: إن فيها لورقاء ،قال :فأنَا تراه ..؟ قال :عسي أن يكون نزعة عرق ،قال صلي الله عليه وسلم :وهذا عسي أن يكون نزعة عرق ).فالحديث واضح بأن هناك أعراقاً (جينات ) لها وظائقها ،منها الأعراق الصانعة للصفات العنصرية كلون البشرة ولون الشعر ولون العين وغير ذلك من الصفات .
وعليه يدعوالإسلام إلي زواج المعروفات بالصفات الحميدة تحسينا ً للنسل .جآء ذلك واضحاً في دعوة الرسول صلي الله عليه وسلم :(تزوجوا الودود الولود ).لبس هذا فحسب بل إن الإسلام لايتردد في أن يمنع الزواج في حال كانت المرأة مجنونة ،وكذلك في حق الرجل .فلقد روي عن الإمام علي رضي الله عنه :(إياكم وتزويج الحمقاء ،فإن صحبتها بلاء وولدها ضياع ).ويظهر من هذه النصوص أن الطفل يرث في رحم الأم من صفات الآباء والأمهات .وهذا ماأشار إليه العالم الأمريكي الشهير "كاريل " عندما تحدث عن ضعف العقل والجنون ،فرغم عدم إنكاره أثر البيئة في ذلك إلا أنه يقرر بأن هذه المؤثرات تكون غالباً جزءاً من الإرث الذي يتلقاه كل فرد عن والديه .
الأخلاق تتوارث وكذلك تتعلم
علماء التربية المسلمون يرون :
أن الله خلق الأشياء وفق نمطين متباينين
- أحدهما كامل كأعضاء البدن داخلاً وخارجاً .
- والآخر ناقصا فيه قوة لقبول الكمال .وكماله يكون بالتربية . فليس غريباً أن تنقل الموجودات الحية كثيراً من صفتها وخصائصها إلي الأجيال التي تليها ،فالأجيال اللاحقة تكتسب صفات الأجيال السابقة .
والأخلاق تتبع الأمزجة وتسري من الأصول إلي الفروع .قال النبي صلي الله عليه وسلم (تخيروا لنطفكم ) ،وقال أيضا: (عليكم بذات الدين ).
ويؤكد هذا المعني قوله صلي الله عليه وسلم :(إن الله اصطفي من ولد إبراهيم إسماعيل ،واصطفي من ولد اسماعيل كنانة ، واصطفي من كنانة قريشاً ،واصطفي من قريش بني هاشم ،واصطفاني من بني هاشم ،فأنا خيار من خيار من خيار ).
فالنواة تحتوي علي جميع الصفات المميزة للشجرة التي وجدت منها ،فعندما تزرع هذه النواة ،وتنبت تظهر تلك الصفات بشكل تدريجي . فالنواة تحتوي علي جميع الصفات المميزة للشجرة التي وجدت منها ،فعندما تزرع هذه النواة ،وتنبت تظهر تلك الصفات بشكل تدريجي .فالنواة ليست تفاحاً إلا أنها خلقت خلقة يمكن أن تصير تفاحاً إذا انضافت التربة إلي البيئة .
وفي هذا الإطار يوصي الإمام أبو حامد الغزالي -وقد اهتم بهذه الظاهرة _بأن لا يستعمل في حضانة الطفل وإرضاعه إلا امرأة متدينة تاكل الحلال .
فهو لايقصر دورها علي العملية التربوية كمؤثر بيئي وإنما يؤكد علي دور الوراثة في عملية بناء شخصية الطفل .
كما حث الإسلام (ومن نفس المنطلق ) اجتناباً للأمراض والعيوب الوراثية الإبتعاد عن الزواج بالقريبة الشديدة القرابة أوبمن يعاني نسلهم من أمراض وراثية ،قال النبي صلي الله عليه وسلم :اغتربوا ولا تضووا أي (لاتضعفوا ) .
والسؤال الذي يطرح نفسه :
هل الصفات التي تنتقل بالوراثة من الآباء إلي الأبناء هي صفات اللون والشعر فقط أم تتعداها إلي انتقال الأخلاق والسلوك ؟ حسم الأمر حديث النبي صلي الله عليه وسلم الصحيح الذي خاطب فيه أشج عبد القيس رضي الله عنه فقال صلي الله عليه وسلم :(إن فيك ياأشج خصلتين يحبهما الله ورسوله ،قال :ماهما بابي أنت وأمي يارسول الله ؟ قال :الحلم والأناة .قال :خلقان تخلقتهما أو خلقان جبلت عليهما ؟فقال :بل خلقان جبلك الله عليهما .فقال :الحمد لله الذي جبلني علي خلقين يحبهما الله ورسوله ).
والحديث واضح ...فالأخلاق كما تتعلم ..كذلك تتوارث .
ثانياً :أثر البيئة في التربية
والبيئة التي تؤثر في تكوين شخصية الانسان هي جميع العوامل المحيطة به وهي :
- البيئة الطبيعية التي يعيش الانسان في كنفها ..فابن السهوب غير ابن الجبال ...والبيئة الصحراوية القاسية ...غير بيئة السهول الخصيبة ..كل الطبيعة التي يتفاعل معها الإنسان تؤثر في نفسيته وتطبع شخصيته .
أنت كالكلب في الوفاء وكالتيس في قراع الخصوم .
فلما جلس في بغداد "عاصمة الخلافة يومذاك ..رقت حاشيته وعذبت لغته فمدح الخليفة في قصيدة مشهورة مطلعها :
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوي من حيث أدري ولا أدري أثرت فيه البيئة وجمال الطبيعة .
- والبيئة الإجتماعية التي تتكون من المجتمع البشري الذي يحيط بالانسان ،ابتداءا بالأسرة ومرورا بغيرها من الجماعات كجماعة اللعب والجوار والمدرسة والعمل وغيرها ،يكون الإنسان فيها عرضة للمؤثرات المختلفة التي تحاول أن تشكل شخصيته وفق العادات والتقاليد التي تنسجم مع نظرة هذه الأطراف إلي الحياة .
تغليب أثر البيئة :
إن انتساب الإنسان إلي بيئته يضاهي انتسابه إلي آبائه ،كما أشار إلي ذلك الإمام ابن القيم حيث يقول : ولكن نحن أبناء الزمان ،والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم ،ولكل زمان دولة ورجال .
فكل حال خالطته النفس مدة طويلة ،تتأثر به علي نحو معين ،تتكيف به الأفكار والتصورات والأخلاق والتصرفات علي شاكله خاصة ،وهو ماأوضحه ابن خالدون من كون أهل البدو أقرب إلي الشجاعة من أهل الحضر فقال :(واصله أن الإنسان ابن عوائده ومألوفه ،لابن طبيعته ومزاجه ،فالذي ألفه في الأحوال حتي صار خلقاً وملكة وعادة ينزل منزلة الطبيعة والجبلة ).
ويتجه هذا الكلام إلي تغليب أثر البيئة في السلوك ،علي أثر الفطرة الإنسانية التواقة إلي الصلاح والفضيلة ،وهو الموقف الذي اختاره مالك بن نبي حيث قال :(إن حياة الفرد قبل أن تكون منوطة بذاته الخاصة وموهبته الشخصية ،هي منوطة أولا وقبل كل شيء بصلته بمجتمع معين ).
ويرجع تفسير هذه الظاهرة إلي ميل النفس الشديد إلي الانشغال بما يفد عليها عبر منافذ الجسم من سمع وبصر وشم ولمس ،أكثر من انشغالها بما طبع عليها باطنها من سجايا ثابتة ،ومن ثم فإن لون البيئة تظل طاغية فيما ينتج عن النفس من مواقف فكرية وممارسات سلوكية .حيث (هناك ارتباط عضوي بين الفرد وإطاره الاجتماعي ،فمعطيات البيئة الاجتماعية سلبية كانت أم إيجابية تنعكس فكرياً ووجدانياً علي تكوين الفرد وحياته ،من خلال تفاعله المستمر مع الآخرين ،فالأفراد في المجتمع يتعلم بعضهم من بعض ،ويتأثر الجميع بالأشياء المحيطة .كما أن تيار المؤثرات قد يزعزع فيهم قيما واتجاهات ،وقد يزرع فيهم قيما واتجاهات أخري ).
وفي الأثر النبوي أن المسكن مما يتشائم منه ...ومسكن الإنسان هو بيئته القريبة منه .
وفي الحديث ..أن الرجل الذي قتل تسعا وتسعين رجلا وكان يبحث عن التوبة ..أمره الرجل الصالح بمغادرة المكان أي بتغيير البيئة الفاسدة إلي بيئة أكثر صلاحا .
وإذا كان العامل الوراثي ،والتقاء نطفة الرجل ببويضة المرأة ،مسؤولا عن تكوين الجنين ،فإن رحم الأم الذي يتمتع بكافة الشروط المطلوبة لإتمام عملية النمو هو البيئة المناسبة التي تمد هذا الجنين بمقومات الحياة .
فكان عوامل البيئة من الخارج ،وعوامل الوراثة من الداخل تعملان معا ومنذ اللحظة الأولي في بناء الحياة .
وكما أن البدن في الابتداء لايخلق كاملا وإنما يكمل ويقوي بالنشوء والتربية وبالغذاء ،فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم .
وحديث النبي صلي الله عليه وسلم :(مامن مولود إلا ويولد علي الفطرة ،فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)،يوضح هذا التلازم بين الوراثة والبيئة في العملية التربوية .
فالطفل يولد علي الفطرة السوية وأبواه (أي البيئة ) يجعلان هذه الفطرة تستقيم علي طبيعتها السوية أو يعملان علي انحرافها ،وذلك حسب التوجيه الذي يوجهانه به ،أو التربية التي يربيانه عليها .ومن هنا فالبيت والشارع والمدرسة والمجتمع ذو أثر حقيقي وحاسم في تنشئة الطفل . مع عدم إغفال العامل الوراثي علي الإطلاق ،بل مع توكيد وجوده وتوكيد أهميته في الحياة البشرية .
أين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الإسلام من عمر في الجاهلية ..؟
أين جفوة القلب ،وخشونة الحس ،والعناد الأصم ،من رقة عمر حين أسلم ،ولين جانبه إلي الحق وانعطافه إليه ،وحساسيته المرهفة وبكائه لآلام الناس ...؟ ومع ذلك فإن الطابع العام لعمر رضي الله عنه ليس هو الذي تغير (الجانب الوراثي )،وماكان مطلوباً منه في الإسلام أن يتغير .بقيت له قوته وصرامته وحسمه وعزمه ..ولكن في الحق والخير وانفاد كلمة الله .
- المؤسسات الإجتماعية :
شخصية الإنسان باختلاف أنواعها |
إرسال تعليق